الإدمان هو، بحسب تعريف "الجمعية الأميركية لطب الإدمان"، "مرض مزمن يصيب النشاطات الدماغية كالمكافأة والتحفيز والذاكرة.."، ويتطلّب علاجاً على أصعدة مختلفة، جسدية، نفسية واجتماعية. وتشير المراجع الطبية إلى إستحالة الإقلاع عن الإدمان، لاسيّما إدمان الموّاد المخدرة، من دون الخضوع لمنهجية علاجية كاملة. "السجن"، إذاً، لا يعد،ّ بأي شكلٍ من الأشكال، حلاً لمشكلة الإدمان. وبالرغم من أن بعض الدول لا زالت تعتمد السجن كعقاب لمدمني المخدّرات، إلا أن المستغرّب فعلاً هو لجوء إحدى منظمات المجتمع المدني إلى "السجن" كأسلوب علاجي. في ما يلي، شهادة لمدمن مخدّرات سابق، كان ضحية لإحدى أشهر جمعيات مكافحة المخدرات في لبنان.
تجربة كميل
بعد مرور سنوات طويلة على معاناتي من مشكلة الإدمان على "الهيروين"، وصلت إلى حائط مسدود، وأدركت حينها أنني بحاجة للحصول على مساعدة، فلجأت إلى أهلي الذين إصطحبوني إلى جمعية "جاد". كان ذلك منذ ما يقارب الست سنوات، وكنت حينها في الحادية والثلاثين من عمري. إلتقينا برئيس الجمعية، جوزيف حواط، الذي أخبرنا عن "مركز جديد مهمّ جداً" في الأردن للعلاج من الإدمان. وأخذ يمتدح المركز، وأوحى لنا بأنه، على الأقلّ، مكان لائق لإستقبال المدمنين ومعالجتهم، حتى أننا حضّرنا "المايو" قبل الرحلة. كانت هذه المرة الوحيدة التي رأيته فيها قبل سفري، تلاها تواصل عبر التلفون.
سافرت إلى الأردن، وتوجّهت إلى العنوان المحدد، أي المكان الذي يفترض به أن يكون "مركزاً صحياً" ليتبيّن لي أنه مركز للأمن العام الأردني، تحت الأرض، يُستخدم كنظارة يتمّ فيها توقيف مرتكبي الجنايات المتعلّقة بالإتجار وتعاطي المخدرات. فلقد نسي رئيس الجمعية أن يذكر لنا التفصيل الأهم، وهو أنه سيتمّ احتجازنا في مركز أمني. لقد كنّا برفقة مجرمين. كنّا نرى رجال الأمن يحملون أسلحتهم ويستعدّون للقيام بمداهمات، كما كنّا نسمع صراخ الذين يتمّ تعذيبهم. كانت الأيام الأولى هي الأصعب على الإطلاق، إذ كنّا نعاني من أعراض إنسحاب المخدرات من أجسادنا، التي تسبّب أوجاعاً تستدعي علاجاً بالأدوية، غير أن أحداً لم يُقدّم لنا أي دواء ولا أي شكل آخر من العلاج، بإستثناء بعض المهدئات الخفيفة جداً. حتى أنني كنت قد أخذت معي بعض الأدوية التي توصَف لهذه الحالة بالذات، لكنّ الجمعية صادرتها. لم يكن الطبيب يأتي إلا في حالة وجود مشكلة مستعصية، وحتى حينها، كنّا ننتظر بضعة أيام لقدومه. كنا محاطين بعناصر الأمن، عوضاً عن الأطباء. وكان يُقال لنا ببساطة "دبروا حالكن".
قضيت في المركز مدّة شهر ونصف الشهر مع ستة لبنانيين آخرين "أكلوا الضرب مثلي". كنّا ممنوعين خلالها من الخروج سوى مرّة واحدة كلّ أسبوعين للحصول على بعض الحاجيات. لم يكن هناك حديقة أو مكتبة أو أي وسيلة للترفيه، وإقتصرت نشاطاتنا على المشي في ملعب، وحضور محاضرات لرجل دين مسلم. كنت قد أحضرت معي بعض الكتب، أحدها للروائي سلمان رشدي، وجده معي أحد الضبّاط فجنّ جنونه وصادره. وكانوا يعطوننا ثلاث سجائر في اليوم فحسب، وقد تمحورت أيامنا حولها. كنا نصرخ ليلاً نهاراً بأننا نريد العودة إلى لبنان، لكننا تُركنا هناك رغماً عن إرادتنا. كنا في سجن فعلي. كان يُقال لنا إنه أحد أهم المراكز في الشرق الأوسط، وكان "يعطي نتائج". لكن فور عودتنا إلى لبنان، أسرعنا إلى شراء المخدّرات، إذ لم نكن قد تعالجنا من إدمانها قط. وعلى الرغم من أننا قصدنا مركز العلاج طوعياً، إلا أننا عدنا منه وقد استنفزت طاقاتنا وإرادتنا، فلم نرغب حتى بملاحقة الجمعية قانونياً.
ضبط المدمنين
للتأكّد من صحّة هذه المعطيات، اتصلت "المدن" بحواط، وكانت المفاجأة أنه لم ينف أياً من هذه التفاصيل، بإستثناء تفصيل واحد هو عدم علم هؤلاء المدمنين بأن المركز الذي يتمّ إرسالهم إليه هو مركز للأمن العام الأردني. ويبرّر حواط تعاونه مع الأمن العام الأردني، بالقول إن "العسكر وحدهم قادرون على ضبط الوضع، وهو أكثر مراكز إعادة التأهيل نجاحاً". بصرف النظر عن تصنيف هذا المركز بـ"مركز إعادة تأهيل"، هناك تساؤلات حول ما يعتبره حواط "نجاحاً"، كونه لم يتابع حتى حالة المدمنين بعد عودتهم من الأردن، بحسب ما أكّده كميل لـ"المدن"، قائلاً "ما عاد سمعنا عنو شي".
كما يدّعي حواط تقديم هذا المركز علاجاً نفسياً ودوائياً للمدمنين. غير أن كميل أكّد على أن "طريقة تعامل الجمعية مع حالتنا قديمة جداً، إذ لا تعترف بالدواء ولا بالدعم النفسي". من جهةٍ أخرى، نلمس لدى حواط، الذي كرّس جمعيته من أجل مكافحة الإدمان، نظرة سلبية تجاه المدمنين أنفسهم، لا المخدّرات بشكل عام. وخير دليلٍ على ذلك، حين قال، عندما قمنا بمواجهته بأقوال كميل، إنه "لا يمكنك تصديق سوى 1% مما يقوله المدمنون". وعندما عرضنا عليه تجربة كميل كدليل على فشل هذا الأسلوب العلاجي، تذرّع بحجةّ أن "معظم المدمنين يعودون إلى المخدرات، بمعزل عن العلاج المعتمد"، رغم أن كميل تخلّص، لاحقاً، من الإدمان بعد خضوعه لعلاج تحت إشراف جمعية "سكون".
ويرى الطبيب والمعالج النفسي العيادي شوقي عازوري، أنّ صعوبات كثيرة تدخل في العلاج النفسي للمدمن، كون المخدّرات تقف حاجزاً بينه وبين نفسه، لذلك لا يستغرب وجود هذا النوع من العلاج الذي يعتمد في السجون، ومعاملة المدمن على أنه مجرم، إذ ينتج شعوراً بالذنب قد يساعده في تخطّي الإدمان، إلا أنه شخصياً لا يعتمد هذا الأسلوب ولا يتبنّاه. من جهته، يعتبر المعالج النفسي العيادي محمد التلّ أن "فكرة السجن والتجريم وإعتماد العسكر قد تكون لها عواقب خطيرة"، كما يضيف أن "العلاج النفسي يمكنه أن يحلّ مكان المادّة المخدّرة أحياناً، إلى حين شفاء المدمن". في المحصّلة لا يشجّع المعالجون النفسيون هذه الحلول، خصوصاً في حال وضعهم في مكانٍ لا اختصاصيين فيه، كالمعالجين والأطباء.
الوضع القانوني
وتطرح هذه القضية إشكالية حول قانونية سلوك "جاد"، كونها تضع مدمنين في عهدة جهاز أمني لدولة أجنبية، من دون التنسيق مع الدولة اللبنانية، بحسب تأكيد حواط. وفي محاولة لفهم الحيثيات القانونية للموضوع، تواصلت "المدن" مع المحامي وعضو "المفكرة القانونية" كريم نمور، الذي أكّد أن هذه العمليّة يتخلّلها عدد من المخالفات القانونية، فـ"القانون اللبناني أقرّ بمبدأ العلاج كبديل عن الملاحقة القانونية، كما أكّد على طوعية إمتثال المدمن أمام لجنة مكافحة المخدرات، وطوعية إلتحاقه بمركز لإعادة التأهيل ومكوثه فيه، بالإضافة إلى تشريع القانون الحصول على الدواء من أجل العلاج". لكن في حالة كميل، فقد تمّ تركه في المركز قصراً، كما مُنِع من الحصول على الدواء، أي تمّ سجنه، "ما يعتبر جرماً، إذ لا يمكن توقيف مدمن إلا بقرار قضائي، وهذا لا ينطبق على هذه الحالة، وهذا يعني أن الجمعية لا تطبق ما هو مذكور في قانون المخدّرات اللبناني".
في هذا العصر، وفي ظلّ تحكّم العلم بمفاصل حياتنا، يبقى السؤال: هل لا يزال مقبولاً أن نضع مدمنين في عهدة العسكر لتأمين علاجهم؟ وهل يدلّ خطاب جمعية "جاد" على أنها فعلاً ملمّة بأوضاع المدمنين وحاجاتهم، وهل هي فعلاً مطلعة على آخر أساليب العلاج؟ نطرح كل هذه التساؤلات في ظلّ تصدّر "جاد" لمجال العمل على مكافحة المخدّرات وعلاج مدمنيها، وبروزها في الأوساط الإعلامية.
[عن جريدة "المدن" الإلكترونية ]